حالة من الجدل أحدثها قرار وقف توزيع الصحف الورقية ببعض مناطق المملكة؛ ففيما أبدى البعض حزنه على ما آل إليه حال هذه الصحف بعد تاريخ طويل من العطاء ، حتى باتت غير قادرة على تحقيق إيرادات تغطي تكاليف وصولها إلى القارئ؛ رأى آخرون هذه الخطوة إشارة جديدة إلى النهاية المتوقعة للنشر الورقي، في ظل هيمنة التكنولوجيا على تفاصيل الحياة اليومية للبشر في مختلف أنحاء العالم.
وخلصت نقاشات متعددة دارت، اليوم الاثنين، بين عدد من المثقفين والإعلاميين السعوديين، تعقيبًا على هذا القرار؛ إلى أن نجاح الصحافة الإلكترونية -التي ظهرت في المملكة في نهاية التسعينيات- في تلبية حاجة القراء إخباريًّا ومعرفيًّا؛ كان من العوامل التي قللت أهمية الصحف الورقية، التي لم تستطع التكيف مع متغيرات العصر، فلم تطور لا أدوات النشر ولا أساليب التحرير، على الرغم من الإمكانات الهائلة المتوافرة لديها.
وبررت الشركة الوطنية للتوزيع، قرارها الذي تضمنه خطاب متداول منها إلى المؤسسات الصحفية، بوقف توزيع الصحف الورقية في عدد من المناطق؛ بما سمته ارتفاع تكاليف التشغيل، موضحةً أنها طالبت إدارات الصحف الراغبة في استمرار التوزيع بتلك المناطق بتحمل التكاليف.
ورأى مثقفون وإعلاميون سعوديون أن قرار وقف توزيع الصحف، يمثل شهادة صريحة بعجز الإعلام المكتوب عن مواكبة العصر، مشيرين إلى أن الموقف الحالي يعيد إلى الأذهان ذكرى قنوات البث الأرضي التي حاولت الاستمرار في أداء دورها بمعايير العمل القديمة، في زمن الفضائيات العديدة والمتنوعة، فكانت النتيجة إما إجبارها على الإغلاق أو البقاء بلا مشاهدين.
ولفتت الشركة الوطنية إلى أن وقف التوزيع دخل حيز التطبيق بدءًا من الاثنين الأول من يوليو 2019، مشيرةً إلى أن الأمر يشمل مناطق كاملة، فضلًا عن عدد كبير من فروعها بمناطق كبرى، كالرياض ومكة المكرمة والقصيم.
ووفق الخطاب الموجه للمؤسسات الصحفية العشر التي تملك إصدارات ورقية في المملكة؛ فقد توقف التوزيع تمامًا في فروع مناطق الجوف، وعرعر، والقريات، والداودمي، وحفر الباطن، ونجران، والباحة، والقويعية، والخفجي، وحائل، والزلفي، وينبع، وتبوك، وشقراء، والجبيل، والإحساء.
كما توقف التوزيع جزئيًّا في عدد من المناطق؛ ففي جدة أوضحت الشركة الوطنية للتوزيع أن قرارها يشمل عسقلان، وخليص، والقروسية، والسنابل، والخمرة، والقرنية، وبحرة، والمحاميد، وكيلو 16. أما في مكة المكرمة، فتوقف توزيع الصحف الورقية في الجموح والشرائع والزايدي.
وفيما لم تعقب المؤسسات الصحفية على وقف توزيعها، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي نقاشًا واسعًا بين المثقفين والإعلاميين السعوديين؛ حيث طالب البعض -ومنهم الإعلامي حمد البكر- بدعم الصحف الورقية؛ نظرًا إلى أهميتها للمجتمع، فيما اتفقت الأكثرية على أن هذه الخطوة تمثل تطورًا طبيعيًّا، في ظل الطفرة الرقمية التي شهدتها المملكة خلال السنوت الماضية.
وفي دول التحول الرقمي الكبرى، كألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، اضطرت كثير من الصحف إلى وقف إصداراتها الورقية، واتجهت لتطوير منصاتها الإلكترونية، معترفةً بالتأثير الكبير للتكنولوجيا في وسائل النشر والتواصل.
كما شهدت بعض الدول العربية توقف بعض الصحف العريقة عن الصدور الورقي، ومن ذلك «الحياة» السعودية و«السفير» اللبنانية، فيما تتجه مؤسسات أخرى إلى اتخاذ الخطوة نفسها، في ظل اتجاه القراء إلى المتابعة الإلكترونية، التي باتت أيسرً، مع توافر خدمة الإنترنت وتراجع أسعار الأجهزة الذكية.
ونقل الكاتب فهد الأحمدي عن المدير العام للشركة الوطنية للتوزيع عبدالعزيز السحلي، قوله: «نستلم من جميع الصحف السعودية 130 ألف نسخة، لا يباع منها سوى 30 ألف نسخة في جميع مناطق المملكة»، معتبرًا أن ذلك الرقم يعكس مدى تراجع هذه الصحف. وقال: «أذكر في عام ٢٠٠٦ أن صحيفة الرياض وحدها كانت تطبع 200 ألف نسخة».
وألقى البعض المسؤولية عن إخفاق الصحف الورقية على عاتق القائمين عليها، مؤكدين أنهم تخلفوا عن مواكبة العصر، ولم يستطيعوا توظيف التكنولوجيا الحديثة بطريقة تتيح لهذه لمؤسساتهم تحقيق عوائد تساعدها على تحمل تكاليف إصداراتها الورقية، أو الاتجاه إلى المسار الرقمي الكامل.
كما أشاروا إلى أن تمسك الصحف الورقية بالطرق التقليدية في المتابعة والتعامل مع قضايا المجتمع، جعلها متأخرة كثيرًا عن تلبية حاجة القراء، الذين أقبلوا بكثافة على الصحافة الإلكترونية، التي شهدت بدورها تطورًا لافتًا خلال السنوات الماضية، لا سيما على صعيد جودة المضمون، وتنويع الأساليب التحريرية، فضلًا عن توظيفها الناجح للمنصات الاجتماعية كـ«تويتر» و«سناب شات»، والتطبيقات الإلكترونية.
وقال مدير مركز «سمت» للدراسات أمجد منيف: «قيل عن مصير الصحافة الورقية الكثير، ونوقشت تقريبًا جميع الأسباب والتحديات والتداعيات والفرص.. الأكيد أن معظم إدارات المؤسسات الإعلامية لدينا، لم تقم بما يجب؛ لأنها لا تزال تراهن على الأفكار القديمة، والحلول المحدودة، والانتظار.. انتظار المجهول!».
في سياق متصل، توقع نشطاء تفاعلوا مع القضية أن يكون الوقف الجزئي لتوزيع الصحف ، مقدمةً للاستغناء نهائيًّا عن كل أشكال الإصدارات الورقية، بما في ذلك الكتب، مشيرين إلى أن هذا المصير يبدو طبيعيًّا في ظل سيطرة التواصل الإلكتروني على مختلف الأنشطة الإنسانية.
ورأى الخبير الاقتصادي فهد الثنيان، أن وقف التوزيع لا يؤثر في مضمون القضية؛ فالعبرة -حسب قوله- بالمحتوى، وقال: «موارد المجتمع يجب تحويلها إلى ما ينفع، وإيقاف عويل البعض على ما يجري من تصحيح الآن».
وتابع قائلًا: «تجد مسؤولين متمسكين بها من أجل برستيجهم فقط، وهم خارجون من العمل؛ كلٌّ يحمل نسخته الخاصة إلى المنزل، وآخرون يتقاتلون على نسخهم، ومعاملات الناس متعطلة».
أما الصحفي أحمد العايد، فقال إن الصحف الورقية تستطيع الاستمرار بالاستفادة بما لديها من إمكانات، وقال: «يجب أن تفكر جديًّا في استغلال الكنز الذي تملكه من أرشيف ومعلومات عديدة ومهمة للدارسين والباحثين. أما البكاء على الأطلال ومطالبة الحكومة بالتدخل فأسلوب لن يجدي نفعًا وإن نفع الآن».
ومنذ نهاية التسعينيات، شهدت السعودية تناميًا كبيرًا في أداء الصحف الإلكترونية، التي نجحت في اكتساب مصداقية القارئ السعودي، الذي انصرف تدريجيًّا عن الإصدارات الورقية، تاركًا المسؤولين عنها أمام تحدٍّ كبير، عنوانه: متى يسدل الستار؟!
وضاعف ظهور مواقع التواصل الاجتماعي كـ«فيسبوك» و«تويتر»، أزمة الصحف الورقية، بعدما وفرت للقارئ فرصة الوصول المباشر إلى الأخبار التي تهمه، دون حاجة إلى إهدار الوقت في التصفح والبحث، وهو التوجه الذي تبنته تطبيقات خدمية وخبرية عديدة ظهرت في الفترة الأخيرة؛ علمًا بأن شركات التقنية -وفي مقدمتها «جوجل»- تسعى إلى إدخال تحديثات جديدة توسع بها خدماتها الإعلامية الشاملة.
ودك يوصلك كل جديد :
• تابعنا على التيلجرام اضغط هنا
• تابعنا على تويتر اضغط هنا